الفرح المتأخر يغمرني

يُقدّم الشاعر العراقي فارس مطر في ديوانه “الفرح المتأخر يغمرني” قصيدة طويلة لرحلةٍ شعريةٍ عميقةٍ تتنقل بين جراح الحرب وانتظار الفرح المُعلّق، كمحاولةٍ لفهم الوجود الإنساني في خضمّ الفقد والهجرة والاغتراب. يعكس الديوان، عبر قصائده المكثفة، تجربةَ شاعرٍ يحمل هُويتَه المُتَشظية بين بغداد وبرلين ومدن أخرى، حيث تتصارع ذكرياتُ الماضي مع واقع الغربة، وتتحول اللغةُ إلى ساحةٍ لصراع المعنى وانهياره.

يُجسّد الديوان تداعيات الحرب على الجسد والروح، حيث تظهر القصائدُ الجسدَ البشري كـ”مَشروعٍ مُتفكك”، و”خريطةٍ مُثقّبة” بالرصاص والغياب. فالحرب ليست حدثاً خارجياً فحسب، بل تصبح كياناً داخلياً يُعيد تشكيل الذاكرة والهوية.

يتنقل مطر بين فضائين: وطنٌ مُتهدمٌ بفعل العنف (“أَنْ أَبقَى معهم / ولمن قالوا اذهب”)، ووطنٌ جديدٌ يفرض عزلته الباردة (“برلين الشرقية هادئةٌ / تُنعش يأسي”). هنا، يتحول المنفى إلى مَسرحٍ لصراع الهويات، حيث يحاول الشاعر إعادة تركيب “الظلّ المُتآكل” عبر لغةٍ ترفض الاستسلام للضياع.

تُشكّل العناصر الطبيعية (النهر، النخلة، الغيمة) رموزاً للثبات في وجه الفناء. فدجلةُ بغداد تُعيد إنتاج الذات عبر تدفقها الأبدي (“سأقولُ لدجلةَ / أَقدامي تَعِبَتْ / فاترُكني أَحبو فوقَ نَميرِكَ”)، بينما تُرمز النخلةُ إلى الجذور التي لا تُقتلع (“بارِك وَشَمَ النَّخلَةِ والنَّهرين”).

يختزل العنوان جوهر الديوان: فرحٌ مُؤجلٌ يغمر الشاعرَ كخاتمةٍ لمعاناة طويلة، لكنه فرحٌ مُرتبك، يشبه “نَصِّي / زَمَني / جَسَدي المُتفكك”. إنه انتصارٌ مؤقتٌ للحياة على الموت، يُجسَّد في لحظاتٍ عابرةٍ من الأمل (“سَأَرْجِعُ عند الضَّوء نَبِياً / حاوَلَ أَن يَكْتُبَ شِعْراً”).

يتميز أسلوب فارس مطر في هذا الديوان بِـ:

التكثيف الرمزي: حيث تتحول اللغة إلى إشارات تُعيد قراءة الواقع عبر استعاراتٍ مُبتكَرة، كتشبيه الجسد بـ”رقعةٍ شطرنجية” تُحاكي صراعات الذاكرة، أو الحرب بـ”خياطةٍ عشوائية” تُمزق النصوص والأجساد.

التوصيف الدلالي: يُعيد الشاعر توظيف المفاهيم اليومية (كالقهوة، السجائر، الجدار) لتحمل أعباءً وجوديةً، فتصبح “فنجانَ قهوةٍ مُمتلئاً بأشباحِ الروتين”، أو “جداراً يُقسِّمُني إلى نصفين: ذُهولٍ وأسئلة”.

الصورة السريالية: كـ”الفرح المتأخر” الذي يشبه “حصاداً لم يُكتمل”، أو “الظلّ الذي يُطاردُه القناصون”، مما يعكس حالة اللايقين التي تسيطر على الديوان.

يُقدّم “الفرح المتأخر يغمرني” شهادةً شعريةً على عصرٍ عراقيٍّ مُثقَلٍ بالحروب والتهجير، حيث يصبح الجسدُ ساحةً للاشتباك بين الموت والانبعاث، واللغةُ مُحاولَةً لِـ”ترتيب الزمن المُتقطع”. ينضم الديوان بذلك إلى مشروعات شعرية عراقية معاصرة تبحث في ترميم الذات عبر الكلمة، لكنه يُضيف بصمته الخاصة عبر إيقاعٍ مُتقلّبٍ بين القصيدة التي تقترب، في السرد، أحيانا من النثرية وغنائية إيقاع التفعيلة، وصورةٍ شعريةٍ ترفض الاستسلام لليأس.

صدر الديوان بطبعتين عربيتين؛ الأولى في العاصمة الأردنية عمّان عن دار الأهلية للنشر والتوزيع عام 2020، والثانية في العاصمة العراقية بغداد عن دار أواهل للدراسات والنشر والتوزيع عام 2022. تم نشر النسخة الرقمية عن منشورات «ألف ياء AlfYaa» بالاتفاق مع المؤلف.

Avatar photo

فارس مطر

ولد في مدينة الموصل ـ العراق ــ سنة 1969. إضافة إلى مدينته الموصل، أقام في مدن متعددة: بغداد 1992 ـ 1988، السليمانية 1999 ـ 2006 بشكل متقطع، العاصمة الأردنية عّمان 2007 ـ 2017 ومنذ العام 2017 يقيم في برلين ـ ألمانيا.

صدر له:
1- سنبقى.. (شعر)، طبعة أولى 2013، عن دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، عمّان ـ الأردن.
2- شعرية العشق بين حضور المرأة وغياب المكان الحميم قراءات في شعر أحمد شهاب (دراسة وشهادات نقدية)، طبعة أولى 2012، دار تموز للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق ـ سوريا.
3- تمرات في الربذة (شعر)، طبعة أولى 2014، دار صحارى، الموصل ـ العراق.
4- الفرح المتأخر يغمرني (شعر)، طبعة أولى 2020، دار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان ـ الأردن. طبعة ثانية، 2022 ، دار أواهل للدراسات والنشر والتوزيع، بعداد ـ العراق.
5- يقول النهر أنت ابني (شعر) طبعة أولى 2024، دار أواهل للدراسات والنشر والتوزيع، بغداد ـ العراق.