


تُعدّ “كوميديا الحب الإلهي” للروائي العراقي لؤي عبد الإله نصاً أدبياً يتحدى التصنيفات التقليدية، حيث يمتزج فيه الواقع بالمتخيل في بنية سردية متعددة الطبقات، تُشكِّل عالماً متنوعا يتأرجح بين جذور ثقافة شخوصها العراقية ومنفى اختارته نتيجة الأزمات التي عاشتها أو وجدت نفسها فيها. تنتظم أحداث الرواية في اثني عشر قسماً تُعيد تشكيل تفاصيل حياة شرائح متنوعة من الطبقة المتوسطة العراقية المُوزَّعة خارج حدود الوطن، لتصبح تجربة المنفى والاغتراب محوراً وجودياً يُضيء ويحتضن الصراعات الداخلية بين والذاكرة والواقع.
تتقاطع أحداث الرواية في فضاءٍ يُحاصره السؤال الوجودي والأحلام، ويتصارع أبطالها مع بحثهم عن المعنى عبر اختياراتهم الشخصية وعلاقاتهم الملتبسة مع الآخرين. كل ذلك يظهر في:
حادثة أزرار ’’عبدل‘‘ الملونة واللعنة الأبوية في حرمانه من اسمه الأول، التي تقود عالمه النفعي الاستحواذي، حيث يعمل بخبث على لي عنق الأشياء ليقودها إلى زريبة طموحاته.
تحول ’’شهرزاد‘‘ من بيئتها الأرستقراطية واكتشافها وعيشها التحولات الاجتماعية والسياسية التي قادت شبيبة أوروبا في الستينات، وانغماسها الكامل فيها، وتحول الماضي إلى صدى، وتميزها باعتبارها صانعة رجال يتركونها بعد اشتداد عودهم إلى أن تفاجأها الأحداث لتتحول إلى إعصار مدمر من الغيرة التي لم تعرفها سابقا.
انهماك ’’صالح‘‘ بسرية كاملة في كتابة روايته التي بدأت محاولاته بيوميات متوازية التواريخ في بلدين “الوطن” و”المنفى” ثم تستمر لتتحول إلى التغنى بـ’’المبدع‘‘ الذي كان سببا في هروبه، والمسؤول عن المجازر بحق رفاقه ومئات العراقيين الآخرين، والذي تحولت إدارته لمعتقل “قصر النهاية” إلى تعبير عن حتمية فاجعة الموت عند الدخول إليه، وإعادة تسويقه لذلك التاريخ الدموي بطريقة شاعرية.
انغماس ’’بيداء‘‘ في عالمها استجابة لسطوة التقاليد الاجتماعية وتحولها إلى “زوجة مطيعة وأم قديسة” تعيش هامش وجودها بتسليم كامل دون أية طموحات خارج ما تم تربيتها عليه، وفي زمن الحزن الموجع على وفاة ابنها، تخرج من شرنقتها وينمو بداخلها إعصارها الخاص الذي اعتقدت أنها ستعيشه دون أن يشعر به أحد.
يُبرز الكاتب موهبته في استخدام لغة تخلق توتراً بين الدقة والغموض، وتتحوّل الجملة إلى أداة تشخيص وجوه الأزمات التي تُذيب الثوابت وتكشف هشاشة وهم الأحلام.
يُقدِّم لؤي عبد الإله شخصياته ككائنات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكن تفاصيلها تتضخم ثم تتفتت أمام هواجسها، في سرد يتخلى عن البنية الكلاسيكية للرواية ليصبح مرآة معقدة لوعي الأبطال، حيث تتداخل الأصوات المتعددة في بنية تشبه المتاهة في أحداثها، وتستكشف الرواية فكرة الحب وتجلياته الجسدية، بوصفها محوراً للصراع الداخلي، والذي يتحول إلى شعورٍ بالخسارة الدائمة.
بهذا، تُصبح “كوميديا الحب الإلهي” لوحةً دراميةً لوجودٍ بشريٍّ يبحث عن ذاته ويعاني في عالمٍ متقلب، ولا يكتفي الكاتب بوصف الألم، بل يُحوّله إلى لغة مجازية مركبة.
إن الخسارات الجماعية والمتداخلة التي وصلت لها شخصيات الرواية في المنحنى الأخير لطرقها، ربما تكون تعبيرا لرغبة الكاتب في تحرير مخلوقاته ورفع يديه عن تشكيل أقدار أبطالها.
يعتمد الكاتب صياغات من المفاهيم الصوفية لكي يكشف دوره في بناء روايته وشخوصها. من دون الكاتب الخالق لن يكون هناك أي وجود لشخوص روايته ومن دون هذه الشخصيات لن يتمكن الكاتب الخالق من مشاهدة نفسه عبر العالم الذي خلقه.
يمكن تلخيص كل ذلك في نص تمت إعادة صياغته ليقول: “وفق رؤية الكاتب الخالق ’’لؤي عبد الإله‘‘، كانت شخصيات روايته قبل ظهورها في عالم الرواية جاثمة كممكنات في العماء، حيث يفصلها عن الحضور تحول الأفكار إلى كلمات مكتوبة وتسمية الشخوص وإكسابها صفاتها.
في ذلك الاضطراب الداخلي لأفكار الكاتب الخالق عن شخصياته التي تتماهى مع أقدارها، ظلت تفاصيلها تتناسل، ضاغطة للظهور، كممكنات تجاوزت حاجز العدم، إلى حيز واجب الوجود. والتي ظلت تتوق لرؤية ممكناتها في أحكام خالقها.
هل كان على الراوي، الكاتب والخالق أن يسمح لكل تلك الممكنات: ’’عبدل‘‘ ’’بيداء‘‘، شهرزاد وصالح وغيرهم بأن تعيش تحققاتها لو أنه كان يعلم ما سيحدث مسبقا لها؟”
صدرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2008 عبر دار المدى في دمشق.
طالب الداوود










