


بطاقة الكتاب:
الكاتب: لؤي عبد الإله
الكتاب: رمية زهر
النوع: قصص قصيرة
القياس: 15سم * 22.5سم
الصفحات: 92 صفحة
في مجموعة قصص “رمية زهر“، يسعى لؤي عبد الإله لتقديم عالم سردي مركب، يتهادى بين الواقعي والأسطوري، الفلسفي والتراجيدي، ليقدم رؤية وجودية قاسية عن ضعف الإنسان أمام مصيره. اللغة هنا ليست أداة نقل فحسب، بل كيانٌ تعبيري مستقل: تستخدم الاستعارات الحكائية لخلق كثافة دلالية.
تتنوع بنية السرد تبعاً لطبيعة كل قصة: السرد الخطي في “حافة الوهم” و”غبار الذهب”، السرد التقطيعي في “رمية زهر” عبر ذكريات متناثرة والسرد التأملي في “العودة الأبدية” الذي يشبه مقالة فلسفية. يتنوع السرد وتُبنى كل قصة بهيكل يناسب موضوعها، مثل الحبكة الدائرية في “لعبة المرايا” مقابل التسلسل الزمني في “دروس قديمة”.
هذه اللغة التعبيرية لا تكرر نفسها؛ فهي تتشكل وفق نبض كل قصة. في “عائلة فقيرة” تصير اللغة طفوليةً ساذجةً تعكس وعي البطلة، بينما في “العودة الأبدية” تتحول إلى خطاب فيزيائي-فلسفي جاف، وكأن عبد الإله يقلب ريشة الكاتب مع كل نص ليرسم لوحة جديدة.
الشخصيات، رغم تنوعها من أطفال بريئة إلى شيوخ منهكين، تشترك في كونها ضحايا خيارات لم يختاروها. طفلة القصر في “عائلة فقيرة” تسجنها ثروة عائلتها في متاهة الجهل، والعامل في “غبار الذهب” يسحق طموحه نظامٌ مجتمعي صامت، و”حسن” في “شرق غرب” يُشرَّد بين هويتين ثقافيتين. حتى الشخصيات شبه الأسطورية كـ”صفية” (“سر الأفعى”) لا يبتعد مصيرها عن المأساة: سحرها يخفي شيخوخة مفاجئة تفضح هشاشة القوى الخارقة. هذه الشخصيات ليست أدوات لتقديم فكرة، بل كيانات تنبض بتناقضاتها؛ فالببغاء في “دروس قديمة” ليس مجرد رمز للتمرد، بل كائنٌ له ماضٍ فاحش في مواخير البصرة، وحاضرٌ يحرر التلاميذ بصوته الساخر، وحكاياته التي تعلمها.
مصادر القصص تستقي من ذاكرة مكانية متشظية. الوطن حاضر كبيئة عراقية لكنه ليس مكاناً جغرافياً فقط، بقدر ما هو “وطن روحي” يُفقد. المنفى هنا متعدد الأوجه: منفى “رمزي” في الغربة (“حافة الوهم”)، منفى “حسن” داخل هويته الممزقة (“شرق غرب”)، وحتى منفى الطفل داخل جسدٍ عاجز عن الفهم. العنصر الأبرز هو الصدفة كمحرك للمصائر: “رمية الزهر” (النرد) في القصة المركزية تتحول إلى استعارة كبرى للمجموعة: قدر الإنسان يُقرع على طاولة لعب عمياء.
الأجواء غريبة تغمر النصوص كالضباب الثقيل، عواصف، أنفاق وأماكن مظلمة يُطلق فيها الرصاص (“أحمر.. أسود”)، وانقطاع كهرباء. لكن عبد الإله يخترق القتامة بكوميديا سوداء مريبة: في “دروس قديمة” يسخر الببغاء من نظام المدرسة القمعي، وفي “غبار الذهب” يتحول الذهب إلى كيس غبار أمام عين صاحبه وتعبير عن ضياع تاريخ كامل. هذه السخرية ليست تهرباً من المأساة، بل سلاحاً لتفجيرها من الداخل.
تتوج هذه العوالم بنهايات مفتوحة ترفض الإغلاق: سيارة “رمية زهر” تتجه نحو المصير المجهول، “سالم” يحتمي خلف باب بينما يحفر المنشار زجاج نافذته، بينما كاتب القصة يواجه صاحب الكاسكيتة الحمراء، برفقة أربعة رجال، ينبعث الجحيم من أعينهم، و”حسن” يشير بإصبعه على خريطة قديمة نحو “سمرقند” دون أن يعرف إن كان الهروب مفيداً. الحياة لا تنتهي بـ”نقطة”، بل بعلامة استفهام أو علامة تعجب.
الموضوعات الأساسية تُحاك في نسيج واحد: التردد أمام خيارات مصيرية (“رمية زهر”)، عبثية السيطرة على المصير (“لعبة المرايا”)، وخيانة الذاكرة وبقايا أوهامها (“حافة الوهم”). لكن الخيط الناظم هو سؤال الوجود المركزي: هل نحن أصحاب قرار أم دمى في يد الصدفة؟ المجموعة تجيب بأن الإنسان “لاعبٌ في لعبة لم يخترها“. في “غبار الذهب” يموت العامل وهو يرى ما جمعه قد تحول إلى غبار، وكأنه تلمس لِسرّ الحياة: كل يقيننا مجرد غبار متطاير.
“رمية زهر” ليست مجرد قصص، بل أركيولوجيا للحظة الوجودية الهشة. لؤي عبد الإله لا يكتب عن شخصياته، بل يكتبنا نحن – المعلقين بين خيارات مستحيلة، ذكريات واهمة، ومستقبل مجهول. هنا تكمن قوة المجموعة: تحويل الصدفة إلى ميتافيزيقا، واليأس إلى شعر.
طالب الداوود










