


رواية “انتظار السمرمر ـ محكيات“ للكاتبة العراقية فيحاء السامرائي هي تجربة سردية استثنائية تتجاوز حدود الشكل التقليدي، لتُقدّم نصاً يتقاطع فيه الواقعي بالرمزي، والذاتي بالجماعي، الشعر بالسرد، تنفتح الرواية على عالمٍ متعدد الأصوات، حيث يركز السرد على شخصيات إنسانية، لكن رواتها متعددون: الأماكن، المشاعر، المفاهيم، الأشياء، كلها تراقب وتعرف وتتكلم وتُحاور وتُعلّق على الوجود، في صيغةٍ تأملية تُسائل الحياة والهوية والانتماء.
يحمل عنوان الرواية “انتظار السمرمر” من خلال دلالة رمزية مكثفة لطائر “السمرمر” المهاجر والذي يزور العراق في فترات متباعدة، قد تشير إلى انتظار الخلاص – سواء من قيد سياسي، أو واقع اجتماعي، أو اغتراب داخلي – في ظل عالمٍ يتأرجح بين الأمل والخذلان.
البنية السردية:
يتكون النص من سبع “محكيات” متداخلة تبدأها مشاهد بعنوان “متنزه”، تظهر فيها الطبيعة كراوية خفية، تراقب الكاتب والسيدة وتُعلّق على مجريات أحداثهما وتعيش فصولها الخاصة. تنقل الرواية القارئ بين فضاءات متنوعة: مخيم لاجئين إلى أحياء وشوارع المدن العراقية العربية، إلى شخصيات تعيش حياتها كجزء من تكوين هذه الأماكن، ومن حنين الماضي إلى قسوة الحاضر، في سردٍ يمزج الواقعية بالمجاز، والتاريخ بظلال الأسطورة.
تتناول الرواية الثيمات الرئيسية التالية:
- الانتظار والضياع: محور مركزي يتمثّل في انتظار العودة، الحب، أو تحقيق الذات.
- الوطن والمنفى: شخصيات تعيش أزمات وطنها وتبحث عن وطنٍ ضائع وذاكرة مكسورة.
- المرأة والمجتمع: تسلط الرواية الضوء على الأنماط المتعددة لحياة النساء وأشكال المعاناة في وجه تقاليد المجتمع والسّلطة كذلك تعرض تنوع التكوين ونماذج نسوية مختلفة.
- السياسة والانهيار: تُجسّد الرواية سقوط الأحلام الثورية، وتُوثّق تأثير الحروب والدكتاتوريات وموجة الطائفية والحرب الأهلية على الفرد.
- الطبيعة كراوٍ وشاهد: تتحوّل الطبيعة إلى كائن واعٍ يُعلّق على الأحداث، ليُضيف بعداً جمالياً وتأملياً إلى النص.
اللغة والأسلوب:
تعتمد الرواية على لغة شعرية مكثفة تمزج بين العربية الفصحى ولهجات عربية متعددة (عراقية، فلسطينية، جزائرية، يمنية، وسورية)، ما يعكس غنى النسيج الثقافي الذي تنطلق منه الحكايات. كما تستعين الكاتبة بالمونولوجات الداخلية، والاستعارات، والمجازات، ومقاطع من الشعر والأغاني الشعبية، مما يُضفي طابعاً وجدانيّاً عميقاً ويكثّف الدلالة.
الزمان والمكان:
تنقل الرواية القارئ بين مدنٍ عراقية ومدن في بلدانٍ عربية متعددة، في رحلة تتقاطع فيها جغرافيا المنفى مع أزمنة الذاكرة والانكسار. يظهر “المتنزه” كمكانٍ رمزيٍّ متكرر يبدأ الرواية والمحكيات وينهيها، يحتضن الحوار بين الكاتب والسيدة، ليكون إطاراً يضمّ الحكايات، ويستدعي سؤال الفن والذاكرة.
القيمة الفنية والاجتماعية:
“انتظار السمرمر“ ليست مجرّد “محكيات“، بل شهادة على عصرٍ يتفتت فيه المعنى، ويصارع فيه الإنسان للحفاظ على كينونته. بجمال لغتها وجرأتها، تُقدّم الرواية قراءة عميقة في واقع العراق وأجزاء من العالم العربي، من خلال شخصية “نيدابا” وشخصيات تسعى إلى البقاء رغم الفقد والخذلان أو شخصيات تكون جزءا من هذه الفوضى. إنها دعوة للتأمل، ومساءلةٌ للواقع، واحتفاءٌ بالأمل الممكن وسط ركام الذاكرة. إنها رواية تُحاكي الواقع بلغة تتجاوز الوصف إلى التفكيك، ومن السرد إلى التأويل، في محاولة لإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول الوطن، الهوية، والزمن.










