تُقدّم رواية “الإرسي” لـسلام إبراهيم نصاً أدبياً يتشابك فيه التأمل الفلسفي العميق مع التجربة الإنسانية، حيث يتحرّك البطل في فضاء متعدد الأبعاد بين الحلم والذاكرة والواقع، في محاولة يائسة لاستعادة هوية مُفتَّتة ووجود مُهتَزّ. يُعدّ العمل انعكاساً مباشراً لتجربة الكاتب الذاتية، التي شكلتها معايشته للحرب والقمع السياسي في العراق، فتُصوَّر الرواية عالماً يغيب عنه الإحساس بالاستقرار ويسيطر شعور بالفراغ الوجودي ومواجهة الموت المجاني.

يُستخدم “الإرسي” كفضاء رمزي يجمع بين فكرة القبر والرحم والهوة التي تبتلع الذات. هذا الرمز يُشكِّل بيئة نموذجية لفهم الصراع الداخلي للبطل، الذي يهيم بين عوالم مُتداخلة من الأشباح والأصوات والذكريات، في رحلة تبحث عن معنى للحياة في ظل من الخوف والرعب والمصير المجهول.

يعيد “سلام إبراهيم” صياغة مفهوم الزمن والمكان، حيث ينتقل السرد بين مستويات الوعي المختلفة، مُستخدماً تقنيات التمازج بين الحلم والواقع، ليصل أحيانا إلى نوع من التجريد والرؤيا الكابوسية والصراع بين اللاوعي والواقع.

يجمع الأسلوب الأدبي بين الرمزية والواقعية والسرد الحكائي، مع استخدام صور مجازية عميقة وسرد ذاتي يعكس الألم الإنساني، ويظهر السياق الاجتماعي بوضوح في بناء الشخصيات والأحداث، مما يجعل الرواية جزءاً من خطاب النقد الثقافي الذي يربط النص بالأحداث التاريخية.

تتناول الرواية موضوعاتٍ عميقة مثل الصراع من أجل الوجود، والصراع مع السلطة، والموت، عبر مشاهد معبِّرة تلتقط تفاصيل الحياة في ظل أحداث الحرب، وواقع القمع السياسي الممتد تاريخيا مثل رؤية البطل “الطفل” لزوج عمته القتيل، والتي تُظهر تداخل الماضي والحاضر في بناء الوعي الذاتي.

يُعدّ سلام إبراهيم من الكتّاب الذين يعتمدون على سيرتهم الذاتية في صياغة أعمالهم الأدبية، وتُشكِّل “الإرسي” نموذجاً بارزاً لهذا التداخل. تُعيد الرواية سرد تجربة الكاتب مع الحرب والمقاومة في الجبل، حيث يظهر البطل كصورة مُنعكسة لتجربة الكاتب الشخصية، سواء في مشاركته في العمل السياسي أو الحرب أو النضال المسلح أو في معاناته من فقدان الأحبة وانهيار القيم، وتعلقه بذكريات العائلة والمدينة والوطن والوقائع المؤسية. يعيش القارئ رؤية الموت والاغتراب كانعكاس لتجارب الكاتب مع فقدان الأصدقاء والمقاتلين الذين قتلوا في الجبهات أو اختفوا في السجون، مما يجعل الرواية وثيقة شخصية. يُضيف هذا البُعد الذاتي طبقات عاطفية عميقة للعمل، حيث تصبح الشخصيات والأحداث صدىً لندوب الكاتب النفسية وانكساراته الواقعية وبحثه عن الخلاص، مما يمنح النص صدقاً وجودياً يتجاوز حدود السرد التقليدي.

Avatar photo

سلام إبراهيم

سلام إبراهيم، روائي عراقي، ولد في 8 كانون الثاني / ديسمبر 1954، في مدينة الديوانية ـ العراق. يقيم حاليا في كوبنهاغن ـ الدانمارك منذ العام 1992، متزوج ولديه ولدان وبنت.
بدأ سلام إبراهيم مساره الحيوي مبكراً في نشاطات سياسية وأدبية، عايش خلالها تحولات العراق الحديث القاسية. تعرض للاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي أكثر من أربع مرات بين عامَي 1970 و1980، بسبب مواقفه المعارضة لنظام الحكم آنذاك.
في سياق الحرب العراقية - الإيرانية، تم تجنيده كجندي احتياط إلى جبهات القتال الجنوبية، لكنه اختار الانشقاق والانضمام إلى صفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي في آب / أغسطس 1982. بعد تسلله إلى المدن وعيش حياة مختبئة بين شباط 1983 وتشرين الأول 1983، عاد قسراً إلى وحدته العسكرية، ليُرسل إلى جبهات القتال في البصرة حتى شباط 1985.
واصل مواجهته مع النظام بانضمامه مجدداً إلى الثوار في كردستان، مصطحباً زوجته معه، لكنه اضطر إلى ترك ابنه البكر وراءه. تعرض لجريمة إنسانية جديدة خلال القصف الكيميائي الذي استهدف مقرات المقاومة في "زِيوة" قرب العمادية في 5 يونيو 1987، ما أدّى إلى إعاقة رئتيه بنسبة 60%.
في حملة "الأنفال" عام 1988، نزح مع آلاف الكرد إلى تركيا ثم إيران، حيث عاش في مخيمات اللجوء حتى عام 1992، حين استقر أخيراً في الدنمارك، حيث يقيم حتى اليوم.
المسار الأدبي:
بدأ سلام إبراهيم كتابة القصة القصيرة أوائل سبعينيات القرن الماضي، ونُشرت أولى قصصه في صحيفة "التآخي" العراقية (كانون الأول 1975). طوال مسيرته، كتب أكثر من خمسين قصة قصيرة، وتوزّع إنتاجه الأدبي بين القصة القصيرة والرواية والنقد، مع مساهمات في صحف ومجلات عربية دولية مثل "الثقافة الجديدة"، "القدس العربي"، "الحياة"، "السفير"، "الاغتراب الأدبي"، وصحف المعارضة العراقية.
صدر له:
1 - رؤيا اليقين (قصص)، الطبعة الأولى 1994 دار الكنوز الأدبية بيروت ـ لبنان.
2 - رؤيا الغائب (رواية)، الطبعة الأولى 1996، دار المدى دمشق ـ سوريا.
3 - سرير الرمل (قصص)، الطبعة الأولى 2000، دار حوران دمشق ـ سوريا.
4 - الإرسي (رواية)، الطبعة الأولى 2008، دار الدار القاهرة ـ مصر، الطبعة الثانية 2022، مؤسسة أبجد ـ العراق.
5 - الحياة لحظة (رواية)، الطبعة الأولى 2010، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة ـ مصر
6 - في باطن الجحيم (رواية)، الطبعة الأولى 2013، وزارة الثقافة، بغداد ـ العراق، الترجمة الإنكليزية 2014 دار صافي، الولايات المتحدة الأمريكية.
7 - حياة ثقيلة (رواية)، الطبعة الأولى 2015 دار الأدهم القاهرة ـ مصر، الطبعة الثانية 2022، مؤسسة أبجد، العراق.
8 - إعدام رسام (رواية)، 2016 دار الأدهم. القاهرة ـ مصر.
9 - طفلان ضائعان (قصص)، الطبعة الأولى 2019 دار الدراويش بلغاريا، الطبعة الثانية 2023، دار الدراويش بلغاريا.
10 - كل شيء ضدي (رواية)، 2021 دار الدراويش بلغاريا.
11 ـ قبلة الصباح (قصص)، 2022، دار الدراويش بلغاريا.
12 - دونت سبيك أسطب (رواية) 2023، مؤسسة أبجد العراق.